Our Space

هل تريد قتلي؟

المصائب قد تصيب أي شخص، ومنها أنا.

عشت في الولايات المتحدة لمدة تزيد عن 8 سنوات، منها نحو سنتين في ولاية تينيسي، وأكثر من 6 سنوات في ولاية أوهايو، فيما زرت أكثر من 27 ولاية كان من أهداف بعضها خدمة أقاربكم العرب، مسيحيون ومسلمون.

أمّا الكوارث الطبيعية، مثل حريق كاليفورنيا، فقد تحدث لأي منّا دون سابق إنذار في أيّ وقت، والذاكرة مليئة بالكوارث التي لا تعترف بالمكان والزمان على مدى اتساع الكرة الأرضية، حيث لا يمكن العثور على بقعة جغرافية واحدة لا يعيش فيها بشر من مختلف الثقافات والأديان.

في أمريكا، كان لي أصدقاء من إفريقيا وآسيا وأوروبا، ومن سكان أمريكا الأصليين، كانت تجمعنا نظرة واحدة إلى قضايا العالم. كنا نؤمن بأن العنف فطرة غير طبيعية، وأن التواصل بين الناس مصدر سعادة للجميع، وكنا نلتقي في أعياد الفطر والأضحى، وأعياد الميلاد حول الشجرة، وفي أعياد الهنود والأرمن والأقباط وأهل أريتيريا الطيبين..

أعترف بأنّ أكثر أيامي سعادة كانت في أراضي “الآميش” التي ما زال سكانها يستعملون عربات الخيول للتنقل في تلال أوهايو المنسية، أولئك الذين لا يؤمنون بالعنف حتى في حالة “الدفاع عن النفس”.

أي إيمان هذا الذي يسكن أرواحهم!

تناولت الطعام مع كل هؤلاء، ويوماً ما، شرّفتني عائلة نصفها كاثوليكية، ونصفها الآخر أرثودوكسية، بتقطيع الديك الرومي في “عيد الشكر”.

لقد تلوت عليهم بعضاً من آيات القرآن، وشرحت لهم ما عرفته من خلال الإنجيل. كانوا ينظرون إليّ بعيون مأهولة بالحب، وهم في أعلى مراتب السلام.

كنت ألعب مع أطفالهم، وكنّا نتبادل الهدايا ونزور بعضنا في الأعياد، في حين لم يترك أحدنا الآخر في لحظات الحزن التي كان يخسر فيها أيّ منّا أحد أحبائه الطيبين. لقد وقفوا معي حين ماتت أمّي، وكنت إلى جانبهم حين احتاجوا إليّ.

كنت هناك. في الولايات المتحدة، حيث كان من الممكن أن تصل الحرائق المشتعلة إلى غرفة نومي.. أو تأكل خشب غرف السفرة التي كنا نأكل عليها معاً خبز الطابون الذي كنت أحضره معي في كل وليمة كانت تعدها سيدة باكستانية لكل المهاجرين في المقاطعة.

لقد تقاسمت مع السوريين والمغاربة والسودانيين والفلسطينيين والأتراك والأكراد والأفغانيين والأوكرانيين، وعدد كبير من القادمين الجدد من المكسيك والبيرو وغيرهم وجبة طعام ساخنة مرات عديدة.

كان يمكن أن تطالنا حرائق المدن والبنفسج ونحن مجتمعين، أو يسقط علينا نيزك جامح ونحن نجلس حول أحلامنا المؤجلة وأصوات الأشواق إلى أوطاننا البعيدة وأهلنا المشتاقين.

كان يمكن أن يحدث ذلك وأن يأخذوا جثتي كل هؤلاء إلى المقبرة الإسلامية، أو يأخذوا جثة صديقي الذي كان أقرب لي من أخي إلى الوداع الأخير في الكنيسة.. كان من الممكن أن أشهد احتراق جثة صديقي الهندي الذي سيرمي أهله رماده في البحر أو على رؤوس الجبال.

لم يكن أيّ منّا قد شارك من قبل في حرب أو معركة، أو أظهر الكراهية تجاه الآخرين.. لقد كان من بيننا سعودية أنقذت آلاف الأطفال بفضل اختراع دواء لم تصل إليه البشرية من قبل.. كانت من مكّة، وكان الناجون من الدواء من مختلف قارات الأرض!

مرّة، دخلت إحدى أرقى مستشفيات الولايات المتحدة لإجراء عملية جراحية “دقيقة”، كان يُمكن أن يخرج عليّ الطبيب الأمريكي من أصول إيرلندية بالقول بأنها “فاشلة”.. لقد نجوت بفضل براعتهم وإنسانيتهم التي لم تعرف الحدود ولم تفكر بالديانة والجغرافيا آنذاك..

قالت لي ممرضة بيضاء بعد أن صحوت من “البنج” بأنني نجوت. وبعد ساعة.. قال لي طبيب أسود البشرة بأن لدي مزيد من الوقت لأستمتع بالحياة!

لوس أنجلوس تحترق. ومن لا يعرف المدينة لا يمكنه أن يتخيل بأن فيها من يعبد الله وبأنه قدم للبشرية ما كان يعينه على الحياة. منهم المسيحيون والمسلمون واليهود والبوذيون والسيخ وحتى الملحدون.. حتى ولو تعرضوا لاختبار مصيريّ!

ثمّ يأتي “الشامت” ليكتب عن الحدث. واصفاً إيّاه بأنه “انتقام إلهي” من “الكفّار”.

في لوس أنجلوس.. كلّ الذين ذكرتهم هناك.

منهم من أرسل إلى أهلنا في “القطاع” أكثر المساعدات.

أصدقائي.. الإنسانية لا تتجزأ ولا تقتصر على أحد.. وأي كارثة طبيعية مؤسفة قد تحدث لأي أحد.

هنا.. دعوني أذكر الجميع.. بأن ما تقولونه بدوافع دينية أو إنسانية أو غيرها.. يخالف جوهر ما تؤمنون فيه.

واسمحوا لي بأن نتخيّل معاً.. ماذا لو كنت أنا هناك في هذه الكارثة الطبيعية الإنسانية أيّها “الشامت”!

هل تريد قتلي؟ إذا كنت كذلك.. هل يمكن أن تقول لي لماذا؟

عبد الله المبيضين كاتب وصحفي

يمثل هذا المقال آراء الكاتب ولا يعكس بالضرورة الموقف التحريري لمنصة شيزوميديا

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

en_USEnglish