Our Space

إلغاء الحد الأدنى للأجور

ناصر الهلسة: نيوزيلندا ألغت قانون العمل بأكمله فماذا حصل؟؟

“ما أجمل أن يكون هنالك حرية كاملة في التعاقد”، كلمات قالها مقاول ثلاثيني منهك من الإكراهات القانونية والعاطفية التي يتعرض لها في السوق الأردني والتي بدورها سترمي به إلى دوامة الإعسار.

وبالعودة إلى حرية التعاقد فإنها غير ممكنة في ظل قانون العمل الأردني رقم (8) لسنة 1996. حيث تبنى هذا القانون مبدأ تدخل الدولة في العقد المبرم بين الأجير والمشغل، وانطلق بتصور من أصل ماركسي مفاده أن المشغل يملك سلطة أعلى من سلطة الأجير ولا يتوانى سعار المشغل بالتوقف عن استغلال الأجير إلا بعد الانتهاء من امتصاص طاقة عمل الأجير ورمي الفتات له من الأرباح التي يشكل جهد الأجير معظمها، لذا؛ فالمشغل إنسان مستغل بالضرورة أي بموجب هذا التصور هي علاقة تبنى على الكراهية ونفي طبقة المشغلين.

وجاء قانون العمل الأردني لإعادة التوازن بين علاقة المشغل والأجير على هذا الأساس، بل رفع سلطة الأجير على سلطة المشغل مما أدى ذلك لهدم حرية التعاقد ودخول الدولة كطرف حمائي في العقد، وبدوره سبب ارتفاع نسبة البطالة في السوق الأردني، وقتل فرص صعود الشركات الصغيرة والمتوسطة للمنافسة في الأسواق الإقليمية والعالمية، وصب في زيادة الكلفة على المستهلك، إلا أن مقاولنا المنهك والجميل لم يستحضر بعد نموذج دولة نيوزلندا، حينما أقدمت روث ريتشاردسون وزيرة المالية في الحكومة المحافظة الجديدة سنة 1991 بإلغاء قانون العمل كليًا، وكان من نتائج ذلك أن انخفضت نسبة البطالة بما يقارب النصف خلال خمس سنوات، لذا سنبين له جمالية الخطوة التي اتبعتها دولة نيوزلندا، عبر كف يد الدولة في التدخل بعلاقة المشغل والأجير وتركها لقوى العرض والطلب، وإزاحة الكراهية لخارج مساحة العلاقة التعاقدية.

إن تدخل الدولة في علاقة المشغل والأجير، واتباعها سياسات حمائية صارمة، أدى ذلك لارتفاع نسب البطالة بشكل غير مسبوق في السوق الأردني، ومن بين الإكراهات القانونية التي فرضتها الدولة على المشغل والأجير، وضع حد أدنى للأجور، حيث عبرت رحلة الحد الأدنى للأجور في السوق الأردني عبر المتوالية التاريخية التالية: (2000 = 80 دينارا أردنيا)/ (2003 = 85 دينارا أردنيا)/ (2005 = 95 دينارا أردنيا)/ (2007 = 110 دينارا أردنيا)/ (2008 = 150 دينارا أردنيا)/ (2012 = 190 دينارا أردنيا)/ (2017 = 220 دينارا أردنيا)/ (2021 = 260 دينارا أردنيا). وبالنظر لفكرة الحد الأدنى للأجور بمنظور يساري، فأنه قد جاء لحماية العمالة الأقل مهارة وخبرة، وضمان شعار محاربة الفقر عبر وضع حد أدنى للأجور، ومن منظور محافظ فقد وضع الحد الأدنى للأجور لحماية العمالة المنخفضة الأجر أمام أمواج العمالة الوافدة التي تقبل العمل بعقود تحت الطاولة، وكلا المنظورين قد سقطا في قولنا بالعامية منظور أبو العريف أو بمحكية مثقفة “ادعاء المعرفة”. حيث إن واضع التشريع ادعى عند سنه لقواعد قانون العمل الأردني بأنها أصلح للعامل وهو الطرف الضعيف الذي بحاجة لإطعامه سينابون الشجاعة أي إعادة إسناد توازنه أمام المستغل، مصاص الدماء، وحافر قبر الأجير، وعدو الاقتصاد الأول “المشغل”.

وبناءً على ذلك، فإن الحد الأدنى للأجور أصبح أسلوب حياة، وتسعيرة أجر موحدة؛ فالأجراء يختلفون بحسب خبراتهم وكفاءاتهم وإنتاجهم، ويأتي هذا الحد لتوحيد فكرة الكفاءة والجهد والإنتاج مما يؤدي إلى جعل الأجراء متماثلون، وعبر فرض معيار قانوني اعتباطي يؤدي إلى لفظ فئة الشباب التي تحتاج إلى الخبرة في بداية مسيرتها المهنية من سوق العمل وضمها إلى حانة العاطلين عن العمل، ومن النكات التي ظهرت نتيجة هذا الخلل، هي معضلة الحصول على الخبرة قبل العمل، فالشاب يصدم في بداية مسيرته بأنه لا يملك خبرة، وأن فقدانه للخبرة هو أساس بطالته، وأن متطلب العمل الرئيسي هو امتلاكه للخبرة، ويبقى يهرع بين هذه المعادلة وتلك إلى حين سقوطه متطلبا بأحد عقود العمل في خبرة “شهيد ثلاث مرات في معركة الكرامة”، وتحول هذا الشاب بعد ذلك إلى رقم يضاف داخل دولاب البطالة في السوق الأردني، والحل لهذه المعضلة بسيط، ويتمحور حول كف يد الدولة عن التدخل في وضع سياسات حمائية صارمة من خلال الإكراهات القانونية الممارسة تجاه المشغل والأجير، وترك حرية التعاقد بين الأجير والمشغل للسوق المبني على العرض والطلب، وكثيرًا من قارئي هذا المقال سيقولون بأن إلغاء الحد الأدنى للأجور سيؤدي إلى استباحة جهد الأجير وإعطائه أقل أجر ممكن، حيث إن الافتراض الرومانسي الثوري بأن المشغل ذئب يفترس الأجير عند غياب الراعي لا أساس له، فكما قد يوجد مشغل مستغل، فأنه قد يوجد أجيرا منعدم الضمير، وأن هذا الرأي يدحض باعتبار أن الأجراء يملكون حرية العمل بناء على العرض والطلب بعكس فكرة وضع حد أدنى للأجور يتم من خلاله استبدال العامل بعامل آخر دون أي اعتبار له، كما أن إلغاء الحد الأدنى للأجور يؤدي إلى تقليل نسب البطالة بين الشباب الذين يعتبرون قليلي الخبرة والكفاءة، وبدوره يؤدي إلى تحسين خبراتهم وكفاءاتهم ومع الوقت إلى زيادة أجرهم بحسب إنتاجيتهم، وأيضا يؤدي إلى توسيع رقعة العاملين، وتخفيض التكاليف بالنسبة للمستهلكين، ومن مقاربة أخرى، أن موقف الأجير أفضل من موقف المقاول لاعتبارات عدة ومن بينها، يستطيع الأجير أن ينتقل برأسماله (الجهد) من مقاول إلى آخر، بعكس المقاول الذي لا يستطيع أن ينقل رأسماله من مقاول إلى آخر، ويعاني من فرط الضرائب والرسوم والرواتب والاقتطاعات التي تداهمه، أي تصبح الدولة شريكا معه وفي النهاية يرقص المقاول على حافة الإعسار حتى يتهاوى ويسقط في داخلها في حال لم يتطور رأسماله، وطالما أننا نعيش في ظل نظام ديمقراطي مبني على آراء الأغلبية، فإن الأجراء هم الأغلبية، والمقاولين هم الأقلية، فقانون العمل قد جاء لحماية إرادة الأغلبية دون الاكتراث لإرادة الأقلية، فلم يظهر أحد وطالب بوضع قانون المقاولة، لحماية المشغلين من بطش الأجراء.

وباستعراض التقرير الصادر عن المركز الاردني لحقوق العمل “بيت العمل” لسنة 2023، بلغ مجموع القوى العاملة الاردنية حوالي 1.8 مليون منهم ما يقدر ب 480 ألف متعطل عن العمل، وأن نسبة البطالة بين الشباب بلغت (47 %). كما بلغ تردد الاعداد الجديدة للسوق الأردني حوالي 130 ألف شخص سنويا، وأن أكثر من ثلث المشتغلين يتقاضون أجورا تقل عن الحد الادنى للاجور أو تساويه. وفي ظل هذه الأرقام، فأن سياسة تدخل الدولة في العلاقة التعاقدية للمشغل والأجير تؤدي إلى ارتفاع نسبة البطالة، واعاقة حركة الشركات الصغيرة والمتوسطة، ورفع التكلفة على المستهلك، ومن جانب آخر، كثير من يتذمرون من العمالة الوافدة التي تعمل بعقود تحت الطاولة، فلما لا نقلب الطاولة عبر تحرير العلاقة التعاقدية بين المشغل والأجير، ونسمح تدريجيا بتشغيل الشباب بدلا من العمالة الوافدة؟ والذي بدوره يؤدي إلى تأخير ثورة الآلات المُتصفة بذكائها الفائق، والتي تعصف بالعاملين ضعيفين الكفاءة إلى الخروج من السوق نهائيا، وصقل خبرة ومهارة العاملين الشباب تدريجيًا.

ونعود إلى المقاول الثلاثيني المنهك من الإكراهات القانونية والعاطفية بعد اطلاعه على تجربة دولة نيوزلندا، ونخبره بأن الحرية والملكية والمسؤولية مفاتيح أساسية للتحرك في فضاء السوق الحر، وتعزيز الابتكار والإبداع، وأن إلغاء الحد الأدنى للأجور هو بوابة التخلص من موروثات وتابوهات عفا عنها الزمن، فكما كان يشاع بأن “الحد الأدنى للأجور وسيلة لمحاربة الفقر”، فإننا نستطيع أن نرفع شعارا أن “الحد الأدنى للأجور هو آلة جهنمية لإنتاج الفقر والإقصاء”. فالدولة بطبيعتها غير مسؤولة بعكس الفرد المسؤول في سوق يشجع الابتكار والمنافسة، وأن التحدي الحقيقي يتمثل في خلق فرص وإنتاج عبر العرض والطلب بدلًا من إعادة تعبئتها من خلال يد الدولة العابثة بحرية السوق، ونُشير إلى فكرة مفادها، أن العلاقة التعاقدية بين المُشغل والأجير، يجب أن تبنى على مبدأ الحرية المطلقة في وضع شروط التعاقد، فعندما يتشرب الأجير، طعم المنافسة الحرة في سوق حر، فإن المنافسة تجبره على رفع مستوى مهاراته وإنتاجه، وقد يصبح السوق منتجًا للمقاولين، حتى تعتبر حالة الأجير عابرة لذاتها من خلال استثماره هامش الربح المتأتي من رأسماله، وتحوله بالنتيجة إلى فرد مستثمر، ولا ننسى بأن الدولة التي تفتقد للقوة العاملة الماهرة هي دولة فقيرة، ونتمنى أن يتحرر السوق من السياسات المشوهة لطبيعته، ويجب على صناع القرار إعادة هيكلة قانون العمل عبر إلغاء النظام العام الحمائي المرتبط بمصلحة الأجير والذي بالحقيقة يضره ويشوه إرادته ويَجعل الدولة وصيًا عليه في العلاقة التعاقدية مع المُشغل، وتحرير شروط التعاقد إلى أقصى حد ممكن. فهل سنعمل على التخلص من التابوهات المقيدة لحريتنا في السوق أم سنبقى خاضعين ليد مخربة لعلاقة المشغل والأجير؟

المحامي ناصر الهلسة

يمثل هذا المقال آراء الكاتب ولا يعكس بالضرورة الموقف التحريري لمنصة شيزوميديا

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

en_USEnglish