Our Space

الحيوات الكثيرة لنوال السعداوي

"كل الناس تموت يا فردوس، وأنا سأموت وأنت ستموتين، ولكن المهم أن تعرفي كيف تعيشين."

توفيت السعداوي في 21 مارس 2021. مواقفها المعقدة والمتغيرة تعني أن هناك أكثر من نسخة واحدة منها لنستذكرها.

***

“كل الناس تموت يا فردوس، وأنا سأموت وأنت ستموتين، ولكن المهم أن تعرفي كيف تعيشين.”

امرأة عند نقطة الصفر

***

أثارت وفاة نوال السعداوي مؤخراً ضجةً واسعةً في أرجاء مصر والعالم العربي وما وراءهما. عاشت السعداوي، التي تعتبر نفسها “نِسوية تاريخية واشتراكية”، حياةً طويلةً وشُجاعةً سياسيًا – حياة عانت فيها من السجن وفقدان الوظائف والرقابة والتهديدات بالقتل، خلال هذه المسيرة، أخطأت السعداوي وتبنت مواقف مخيبة للآمالِ أيضًا. إنه لشرف كبير أن نشتبك مع إرثها، وأن نواجه التناقضات والتحديات التي أثارتها القضايا التي كتبت عنها، هذه القضايا لم نكن نجرؤ أن نفكر ونتحدث عنها لولاها.

من المناسب أن تكون أخبار وفاة السعداوي، وما تلاها من فيض المقالات والمشاركات والتغريدات التي كُتبت لإحياء ذكراها، مثيرة للجدل ومعقدة مثل الحياة التي عاشتها. تطرق الحوار الذي أعقب ذلك إلى موضوعات تشمل محتوى عملها، وما إذا كان لا يزال معاصراً، وفعالية النضال الفردي، والأهم من ذلك، كيف يمكننا التوفيق بين حاجتنا لأبطال/بطلات سياسيين/ات مع حقيقة أن مفكرينا الذين/اللواتي نعتبرهم/ن قدوة لنا قد يكونوا/ن مخيبين/ات للآمال. بالنسبة للبعض، كانت رمزًا نسويًا تناولت الأفكار المتعلقة بالجنسانية والتي كانت من المحرمات في العالم العربي. بالنسبة لآخرين، كانت اشتراكية ناضلت من أجل التحرر الوطني. بالنسبة للبعض، كانت ثورية. بالنسبة لآخرين، كانت معادية للثورة. إن مواقف السعداوي المتعددة والمعقدة والمتغيرة تعني أن هناك أكثر من نسخة واحدة للاحتفاء بها، وأكثر من إرث نتجادل حوله.

بالنسبة لي، كما هو الحال لكثيرين/ات في مصر والعالم العربي، كانت قراءة السعداوي تجربة محورية. كان الأمر أشبه بعرض عدسة جديدة يمكن من خلالها رؤية العالم. قدمت كتاباتها ومقابلاتها الجريئة، المناهِضة بشدة للرأسمالية، النِّسوية برؤية عالمية بديلة عن تلك المُقَدَّمَة لنا. أتذكر التهام أعمالها وشعرت أنني وجدت مناصرة للأنوثة المصرية، وهو شعور أعلم أن الكثيرين/ات يشاركونني فيه. لم يكن ما قالته السعداوي فحسب، بل كانت أيضا طريقتها الشجاعة والجريئة في قوله.

لذلك، كانت مفاجأة محيرِّة عندما بدأَتْ، بعد سنواتٍ عديدة، بالدفاع عن السيسي. على الرغم من انضمامها لصفوف الثوار في عام 2011، والمطالبة بتعديلاتٍ دستوريةٍ وإنشاءَ نقابةٍ للمرأةِ المصرية، رفضتْ السعداوي التنديد بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في عدة مناسبات، ورفضت وصفه بأنه معادٍ للثورة، حتى أنها ذهبت لحد الدفاع عنه. في مقابلة مع Guardian عام 2015، قالت: “هناك فرق شاسع بين مبارك والسيسي. لقد تخلَّصَ من الإخوان المسلمين، وهذا لم يحدث مع مبارك ولا السادات من قبله “. حافظتْ على نفس الموقف حتى عام 2018 على الأقل، عندما اتهمتْ مذيعةِ البي بي سي BBC باستخدامها كأداة تمثل “وجهة النظر المعارضة” المصرية، والتلاعب بها كوسيلة لدفع أجندة غربية. لكي نفهم كيف أن نوال السعداوي، إحدى أهم النسويات الراديكاليات في العالم الثالث في القرن الماضي، تبنت مثل هذا الموقف، نحتاج أن نأخذ بعين الاعتبار موقفها والصعوبات الهائلة التي واجهتها لمخاطبة مجموعات متباينة من الجماهير طوال حياتها. طيلة حياتها، عارضت اختزالها تحت هذا التصنيف أو ذلك، لكنها رُفِعتْ لمرتبةِ الشرف المريبة على أنها ” ممثلة للنسويات العربيات”.

وُلدت السعداوي عام 1931، وكتبتْ أكثر من خمسينَ كتابًا حول موضوعات مثل الجنسانية، وختان الإناث، والعمل الجنسي، فعُرِفتْ في مصر والعالم العربي وغيرهما. كما اتخذتْ عدة مواقف اعتبرت “من المحرمات”، مثل المطالبة بالمساواة في الميراث بين الرجل والمرأة، والدفاع عن المثلية الجنسية، وانتقاد الحجاب. مع ذلك، من خلال كتاباتها، تعاملت أيضًا – بطريقة أقل إثارة – مع الإمبريالية والرأسمالية والطبقية. وبحسب رواياتها الخاصة، فإن تجارب الحياة التي مرت بها السعداوي قد دفعتها للتطرف. فقد تعرَّضتْ لتشويه الأعضاء الجنسية (الختان) في سن السادسة، وشهدت اشتباك جدتها لأبيها الفلاحة مع المسؤولين الحكوميين، وتعرضت للتمييز على أساس درجات لون البشرة من جدتها لأمها ذات البشرة الفاتحة؛ جميعها كانت من التجارب المؤثرة في تكوين شخصيتها.

ليس من الصعب أن نتخيل لماذا ستحظى الناقدةَ الصريحةَ للإسلام والأنظمة الاستبدادية في الشرق الأوسط بالترحيب لدى الجماهير الغربية. كانت السعداوي نفسها تدرك جيدًا كيف يمكن أن يستخدمها المعلقون الغربيون والجماهير لنشر أجندات معينة، وسعت في العديد من أعمالها للتقليل من هذه الإثارة واستباق تصنيفها على أنها مجرد ناقدة للإسلام أو ” مُحَارِبة من العالم الثالث” أو” كاتبة المقاومة “. في مقابلة عام 2018 مع مجلة The Cairo Review of Global Affairs، قالت: “ختان الإناث ليس سوى موضوع واحد من أحد المواضيع التي أكتبُ عنها، وقد كَتبتُ عن العديد من الموضوعات الأخرى، التي تجاهلها النقاد الأدبيون ووسائل الإعلام العالمية.” في كثير من تحليلاتها، كانت ترى أن الأصوليةَ الإسلاميةَ يمكن أن تستخدم كأداة لقمع النساء في الدول العربية، بينما حاولت بنفس الوقت رفض الانتقادات الغربية للإسلام. ورد في كتابها ” الوجه العاري للمرأة العربية”: “من المهم ألا تشعرَ النساء العربيات بأنهن أقل من النساء الغربيات، أو أن يعتقدن أن التقاليد والثقافة العربية أكثر اضطهادًا للمرأة من الثقافة الغربية”. عند مناقشة سيرة حياتها، نحتاجُ أن نعي أيضاً لمحاولاتِ التقليل من إرثها ووصمها بأنها مجرد “ضحية للإسلام” أو “معارِضة للأنظمة الاستبدادية”، حيث تعمل هذه الأطر غالبًا على التقليل بشدة من فكرها السياسي المعقد ومحو راديكاليتها.

إن تصنيف نسويتها تحت نوع عام وغير تاريخي من “النسوية ضد الإسلام” أو “النسوية ضد الحكومات الاستبدادية” سيحدث ضرراً كبيراً بها، بالإضافة إلى فصلها عن السياق التاريخي الذي كان يؤطر معتقداتها. في الواقع، غالبًا ما تحظى المواقف السياسية الأخرى للسعداوي بتغطية إعلامية أقل من النسوية فيما يتعلق بالحياة الجنسانية للمرأة في مصر، على الرغم من ارتباطهما الوثيق ببعضهما البعض.

السعداوي هي نتاج جيل من مثقفي/ات العالم الثالث، الذي ألهمته حركات المقاومة في القرن العشرين. في عهد أنور السادات، عَبَّرتْ عن شعورها “بالغربة عن وطني”. كانت “سياسة الباب المفتوح” النيوليبرالية للسادات في السبعينيات هي الدافع الذي دفعها للكتابة عن استغلال الرأسمالية للمرأة والإصرار في عدة مناسبات على أن الاشتراكية كانت ضرورية لتحرير المرأة. في كتاباتها، صاغت مصطلح “المجتمع الطبقي الأبوي”، مشيرة إلى العوامل السياسية والاقتصادية التي تساهم في اضطهاد المرأة. في الواقع، رأت أن اضطهاد المرأة هو نتيجة لظروف اجتماعية ومادية وليس حالة طبيعية معينة. عندما تم سجنها لاحقًا من قبل نظام السادات في عام 1981، لم يكن ذلك بسبب آرائها حول الجنسانية، كما يجادل بعض المعلقين بشكل خاطئ. بل كان ذلك بسبب معارضتها الشديدة وانتقاداتها لاتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل، وطموح السادات لتغيير مصر حسب مصالح الولايات المتحدة، وانفتاحها على المؤسسات المالية الدولية. (عوقبت لاحقاً بسبب آرائها حول الجنسانية، بما في ذلك فقدان وظيفتها في وزارة الصحة بعد نشر كتاب “المرأة والجنس” عام 1972). جاء إطلاق سراحها من السجن بعد ثلاثة أشهر، بعد اغتيال السادات – وهذا تاريخ حاسم في تحديد سياق نضالها من أجل حقوق المرأة.

لم تخجل السعداوي أبدًا من إفريقيتها قائلة: “لقد توقَّفتُ عن إخفاء بشرتي الداكنة في وقت مبكر جدًا من حياتي، منذ أن اكتشفت أن مصر في إفريقيا، وليس فيما يسمى بالشرق الأوسط. في الواقع، لم أستخدم مصطلح الشرق الأوسط مطلقًا “. كانت ترفض مغالطة التكافؤ الكاذب (مقارنة حالات أو أشياء مختلفة ببعضها لإثبات حقيقة ما بشكل خاطئ) وتكره سياسات الهوية النسوية، ووصفت هيلاري كلينتون ومارجريت تاتشر بـ “النساء الأبويات”.

لم يقتصر انتقاد السعداوي على الحكومة المصرية. كانت أيضًا من أشد المنتقدين للإمبريالية، وكانت تحليلاتها واضحة حول الدور الذي يلعبه الاستعمار في إخضاع المرأة المصرية والعربية. في العديد من المقابلات التي أجريت باللغتين الإنجليزية والعربية، رفضت تمامًا فكرة أن الثقافة المصرية أو العربية أدنى من ثقافات الغرب. في الواقع، غالبًا ما اتخذت موقفًا مفاده أن تحرير المرأة في العالم الثالث وجب رَبْطُه بالتحررِ الوطني، وهي وجهة نظر صُبغت بها آرائها الراسخة الأخرى، مثل دعمها للنضال الفلسطيني والحكومة الماركسية في جنوب اليمن.

 كتابها ” الوجه العاري للمرأة العربية” الذي يلقي الضوء على المجتمعات الأبوية في العالم العربي، وناقشت فيه مشاركة المرأة العاملة في الكفاح ضد الاحتلال البريطاني لمصر، ووَصفت الثورة الإيرانية عام 1978 بأنها انتصار ل”ضد الإمبريالية” على الغرب وانتقدت خصومها (الولايات المتحدة والسادات). بسبب مكانتها العالمية، عارضت بشدة حرب العراق، ودعمت إضراب عمال المناجم في الفترة 1984-1985 في بريطانيا، وشنت حملة ضد حرب الخليج الأولى، حتى أنها شاركت في لجنة التحقيق في محكمة جرائم الحرب الدولية عام 1992، مما تسبب لها بمزيد من الرقابة من خَلَفِ السادات وحليف الولايات المتحدة حسني مبارك.

حاولت البقاء وفية للمرأة المصرية والعربية والتقدمية وسعت للتضامن معها، لكنها واجهت أيضًا نبذًا من الدوائر الأكثر تحفظًا في المجتمع المصري والعربي، وغالبًا ما وُصِفتْ بالزندقة وواجهت دعاوى قضائية متعددة وتشهير إعلامي لا نهاية له. غادرت مصر لفترة وجيزة عام 1993 لقضاء بعض الوقت في التدريس في الولايات المتحدة. على الرغم من تهميشها ونبذها من قبل المجتمع في مصر، إلا أن السعداوي لاقت ترحيبا دوليا ونسوياً من نسويات دول الجنوب (الجنوب العالمي). على الرغم من ضغط جمهورها الجديد للانقلاب على الإسلام، فقد أكدت أن الأبوية والاستعمار والاستعمار الجديد كانت القوى الدافعة وراء اضطهاد المرأة. عادت إلى مصر بعد ثلاث سنوات، وفي أواخر التسعينيات وأوائل القرن الحادي والعشرين، أصبح منزلها مكانًا للتنظيم في السنوات التي سبقت ثورة يناير 2011. حتى ذلك الوقت، كان هدفها الرئيسي من النقد هو ما أسمته “التعصب الديني”. في عام 2010، أعلنت أنها أصبحت أكثر راديكالية مع تقدم العمر.

بالرغم من إدراك السعداوي لفائدتها المحتملة للمراقبين/ات والمعلقين/ات الغربيين/ات على الشأن العربي والمصري، إلا أنها لم تخضع لهذه الضغوطات. من الظاهر أن السعداوي كانت أحيانًا تَقبْل، بل وترحب بالطرح الذي يميزها ويجعلها ممثلة للنسوية العربية، وأجرت مقابلات لتصف حياتها “من الفقر إلى الثراء”: طبيبة من ريف مصر تتحدث بالنيابة عن النساء العربيات. في مقابلة مع Guardian عام 2015، رداً على سؤال عما إذا كان من الصعب أن تكوني مطلَّقة في مصر، قالت: “إذا كنت امرأة عادية، فهو عادي أيضاً. لكنني استثنائية. يتوقع الناس مني كل شيء “. ظهر هذا التباين بين التطرف الجماعي والفخر الفردي أيضًا في كتاباتها، لا سيما في كتاب “مذكراتي في سجن النساء”، والذي كتبته السعداوي خلال فترة سجنها باستخدام قلم تحديد عيون وورق تواليت. في وصف الفترة التي قضتها في السجن، رسمت صورة دغمائية (عقائدية) مفرطة للسجينات الأخريات، مُبالغةً في ماركسيتهن أو أصوليتهن الإسلامية. بالرغم من ذلك، سعت السعداوي، أثناء وجودها في السجن، إلى توحيد النساء في العالم العربي من خلال تشكيل جمعية تضامن المرأة العربية، التي حظرها لاحقاً مبارك. في هذه الحالة، تتضح التناقضات: نسوية اشتراكية، لكنها استثنائية. مُحَرِّرة للمرأة العربية وضحية للأنظمة الاستبدادية. عند اقتناعها بهذه الرواية، بدت وكأنها تستأنس لهذا الوصف الفردي لحياتها، بالرغم من أن فحوى عملها يؤكد على الأهمية القصوى للمقاومة والنشاط. قد نتساءل إذن، هل كان اعتذارها للسيسي مثالاً آخر على الوضع المعقد والمشحون لأنها مثقفة من العالم الثالث في الساحة العالمية.

من المحتمل أن تكون السعداوي قد وجدت نفسها عالقة بين هويتين: واحدة مصرية، وأخرى تمثلها خارج وطنها. ومن الممكن أيضًا أن تكون نظرة السعداوي للعالم، مثلها مثل العديد من المثقفين/ات الآخرين/ات، قد تضيقت تماشيًا مع هزيمة المعارضة اليسارية وقوى المقاومة، في مصر والعالم. من المحتمل أيضًا أنها رأت أن السيسي، علمانيًا ظاهريًا، أكثرَ احتمالًا من جماعة الإخوان المسلمين، بالنظر إلى معركتها المستمرة مع الأصوليين الدينيين. ربما يكون مزيجًا من هذه العوامل، وهي صيغة لا يمكننا أبدًا أن نأمل في فهمها.

كيف يمكننا إذن أن نتذكر ونحيي ذكرى الهويات السياسية المعقدة العديدة للسعداوي؟ ما هي الدروس التي يمكننا استخلاصها من حياتها للتعرف على المهمة الصعبة للغاية لمفكري/ات العالم الثالث؟ هل هذه أسئلة يجب أن نحاول الإجابة عليها؟ تُذَكِّرُنا أحزاننا المتعددة على وفاتها بمشكلة تحويل أبطالنا/بطلاتنا السياسيين/ات والمفكرين/ات لأيقونات، مما يحول اختلافاتهم/ن ومواقفهم/ن التاريخية لإرث جامد لا جدال فيه. نستخلص إذن كيف أن الحداد على نوال السعداوي هو في حد ذاته عمل سياسي. الحداد على نوال السعداوي، هو التفكير في الطرق التي شقتها لنا، ومفردات التحرر التي زودتنا بها. الحداد على نوال السعداوي هو الأخذ في الاعتبار المسؤوليات الهائلة والتناقضات التي تأتي مع كونك مثقفًا راديكاليًا مشهورًا.

***

نهال الأعصر باحثة مصرية مستقلة مقيمة حاليًا في لندن.
ترجمة: لينا ناصر الدين

***

يمثل هذا المقال آراء الكاتب ولا يعكس بالضرورة الموقف التحريري لمنصة شيزوميديا

تعاد نشر المقالة المترجمة عن صفحة نادي الحوار حول النوع الاجتماعي. يمكنكم/ن قراءة الأصل الإنجليزيّ هنا.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

en_USEnglish