مساحتنا

الأمن السيبراني، ركيزة اقتصادية وطنية

في خضم الثورة الرقمية المتسارعة التي يعيشها العالم، أصبح الأمن السيبراني أكثر من مجرد حاجة تقنية، بل ضرورة وجودية للدول والهيئات والأفراد، الأردن الذي يسير بخطى ثابتة نحو التحول الرقمي، يواجه تحديات متزايدة في هذا المضمار، خاصة مع تزايد هجمات السيبراني وتنوع أساليبها.

وفقًا للتقارير الرسمية، فقد سجل الأردن خلال عام 2023 أكثر من 2455 حادثة سيبراني، مقارنة بـ 1362 حادثة في عام 2022، أي بزيادة تتجاوز 80٪ خلال عام واحد فقط، وفي الربع الأول من عام 2025 وحده، بلغ عدد الحوادث 1297، ما يشير إلى تسارع غير متوقع في وتيرة هذه الهجمات.

هذا الواقع دفع الدولة إلى إنشاء المركز الوطني للأمن السيبراني عام 2021، ليكون الذراع الحامي للبنية الرقمية الأردنية. يعمل المركز على تقييم الخدمات الرقمية، ويمتلك حتى الآن ربطا مباشرًا مع أكثر من 90 مؤسسة حكومية، كما خضعت 48 خدمة إلكترونية للتقييم الأمني منذ بداية 2025 هذه الخطوات كانت جزءًا من استراتيجية وطنية للأمن السيبراني أطلقت للفترة 2022-2025، ثم تم تجديدها لتغطي حتى عام 2028، وتهدف إلى جعل الأردن مركزا إقليميًا في هذا المجال، وتعزيز ثقة المستثمرين في البنية الرقمية المحلية.

أحد المؤشرات على جدية هذه الجهود هو صعود الأردن في مؤشر الأمن السيبراني العالمي، من المرتبة 71 في عام 2022 إلى المرتبة 27 في عام 2024، مع تحقيق معدل أمان بلغ 98.6 هذه القفزة ليست مجرد رقم، بل انعكاس مباشر لحجم الاستثمار المتزايد في هذا القطاع، حيث بلغ متوسط الإنفاق السنوي على الأمن السيبراني في الأردن قرابة 100 مليون دولار، بمتوسط إنفاق فردي يصل إلى نحو 9.5 دولار.


لكن الحديث عن الأمن الرقمي لا يمكن فصله عن الذكاء الاصطناعي. فالعالم يتجه بخطى سريعة نحو دمج الذكاء الاصطناعي في كافة قطاعات الحياة، بما في ذلك الأمن السيبراني ذاتي الأردن استند هذا الاتجاه منذ عام 2020 عندما أطلقت وزارة الاقتصاد الرقمي سياسة وطنية للذكاء الاصطناعي، تتضمن خمسة محاور أساسية، تشمل البنية التحتية الرقمية، وتطوير المهارات والضوابط، والتشريعات، وهيئة البيئة الاستثمارية. تسعى هذه السياسة إلى تنفيذ أكثر من 68 مشروعًا بحلول عام 2026، ودمج الذكاء الاصطناعي في قطاعات التعليم والصحة والطاقة والأمن.

غير أن السياسات وحدها لا تكفي، فجوهر التقدم الحقيقي مقابل العنصر البشري. تشير التقديرات إلى وجود نقص عالمي يقدر بأكثر من 3 ملايين متخصص في مجال الأمن السيبراني. وفي الأردن، يتخرج سنوياً حوالي 500 متخصص في الأمن السيبراني، ومثلهم في مجالات تحليل البيانات والذكاء الاصطناعي.

ومع ذلك، يبقى هذا الرقم متواضعًا مقارنة بحاجة السوق المتزايدة، مما يستدعي تطوير منظومة التعليم التقني، وتوسيع نطاق التدريب العملي، وزيادة عدد محاولات التحفيز والمسابقات مثل “لقطة سيبرانية” التي تشارك في رفع وعي الشباب.

ولا يمكن تجاهل البعد القانوني، فقد أثار مشروع قانون الجرائم الإلكترونية في الأردن عام 2023 نقاشًا واسعًا حول التوازن المطلوب بين حماية الخصوصية والحرية الرقمية. بناء بيئة قانونية ذكية ومرنة أصبح مطلبًا ملكًا، خاصة في ظل تطوير الخدمات الرقمية واعتماد الناس المتزايد على الفضاء الإلكتروني.

إذا تأملنا المشهد العالمي، سنجد أن التكنولوجيا تتجه نحو تعلم الذات، والمعالجة اللغوية، والتحليل التنبؤي، وأنني لا أواكب هذا التطور سيجد نفسه في موقع المتلقي لا الفاعل. ولذلك، فإن امتلاك منظومة رقمية وطنية آمنة ومبنية على الذكاء الاصطناعي لم يعد ترفا، بل ضرورة استراتيجية الاستثمار في الأمن السيبراني هو استثمار في السيادة الوطنية، في الاقتصاد، وفي ثقة المواطن.

الأردن يملك كل المقومات ليكون مركزا إقليميًا للأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي، لكن ذلك لن يتحقق إلا إذا تم توسيع دائرة التدريب، وتحفيز الابتكار، وتعزيز الشراكات بين الحكومة والقطاع الخاص والجامعات. العالم لا ينتظر، والخطر لا يستأذن. والمستقبل سيصنعه من يمتلك المعرفة، لا من يكتفي بمراقبتها.

أسامة الرواشدة .

مقالات ذات صلة

arArabic