شعبوية “نحن” و”هم” : حين تتحول السياسة إلى معركة إلغاء الآخر
فلنسأل أنفسنا: حين نُقسم العالم إلى "نحن" و"هم"، هل نحمي المجتمع، أم نُمزقه بأيدينا؟

في السياسة، كثيرًا ما نسمع عن “اختلافات في الرأي”. لكن حين تُقال العبارات بصيغة “نحن” و”هم”، فالمسألة تتجاوز الخلاف، وتدخل في ميدان الانقسام. هذه ليست مجرد كلمات، بل أدوات خطابية تُستخدم لتقسيم المجتمع، وتبرير الإقصاء، وتحويل النقاش إلى ساحة معركة، يكون فيها أحد الطرفين هو الشعب الحقيقي، والآخر دخيلًا أو خائنًا.
تكتسب هذه الشعبوية خطورتها من بساطتها الظاهرية. فهي تدّعي تمثيل مصالح “الشعب”، وتقدم نفسها كصوت للحق في مواجهة “النخب الفاسدة”، أو “المؤسسات العميلة”، أو حتى “الأفراد المختلفين”. في المجتمعات التي تعاني من أزمات اقتصادية أو سياسية، يصبح لهذا الخطاب تأثير مضاعف، إذ يركب موجة الغضب، ويمنحها وجهة محددة: “هم”.
“هم” قد يكونون فئة سياسية، ثقافية، دينية، أو حتى اجتماعية. لا يهم من هم تحديدًا، المهم أنهم لا ينتمون إلى “نحن”.
الشعبوية، كما يصفها الباحث يان فيرنر مولر، تقوم على افتراض أن “نحن”، ونحن فقط، نمثل “الشعب الحقيقي”. هذا الادعاء لا يترك مجالًا للتعدد، ولا يعترف بشرعية المعارضة أو اختلاف الرأي. إنها معاداة صريحة للتنوع، وتحويل المجتمع إلى قالب واحد جامد.
الخطاب الشعبوي لا يناقش السياسات بقدر ما يُهاجم المؤسسات التي تنتجها، ولا يطلب الإصلاح بل يسعى إلى الهدم. لا يُحاجج بالعقل، بل يُحرّك العواطف: الغضب، الخوف، الإحساس بالخذلان. وهنا مكمن الخطر؛ إذ يتحول الغضب من وسيلة للتغيير إلى وقود للإلغاء، وتتحول الخلافات إلى اتهامات، والمعارضون إلى أعداء.
في هذا النوع من الشعبوية، لا يعود المواطن مجرد فرد صاحب رأي، بل يُطالَب بالانتماء الكامل إلى “نحن”، أو يُصنّف ضمن “هم”. ويغيب الحوار تمامًا، لتحل مكانه الولاءات والهويات المؤطرة، وتُختزل الدولة في من يرفع الشعار الأعلى صوتًا.
لكن، من قال إن المجتمع يمكن أن يُختزل في “نحن” واحدة؟ من قال إننا بحاجة إلى عدو دائم لنشعر بالانتماء؟
المجتمع ليس وحدة صلبة، بل نسيج حي من الاختلافات. هو فسيفساء من التجارب، والأفكار، والهويات.
إذا كنا نريد ديمقراطية حقيقية، فليس الطريق هو الإقصاء، بل التعدد. ليس بالغضب وحده تُبنى الأوطان، بل بالحوار، وبالاعتراف بشرعية الاختلاف.
فلنسأل أنفسنا: حين نُقسم العالم إلى “نحن” و”هم”، هل نحمي المجتمع، أم نُمزقه بأيدينا؟
للمزيد, شاهدوا الحلقة