في الروح الأولمبية: حينما تتحول المدينة إلى مختبر مسرحي
فارس الذهبي: "بينما تنطلق الموسيقى الحديدية من شرفات القصر، امتلأت النوافذ بدمى نساء تحمل رؤوسًا مقطوعة في أداء مسرحي ملفت، يدلّل على تاريخية المكان والدور الذي لعبه في الثورة الفرنسية، ليقفل المشهد بنوافير من القماش الأحمر في كناية عن الأيام الدامية"
عُقد الكثير من الكلام حول معنى وتفسير الروح الأولمبية، وهل بالفعل نحن نعيش في عالم يحترم قيم المساواة والتنافس الحرّ والعدالة، لكن حفل الافتتاح الأسطوري للألعاب الأولمبية الصيفية في باريس الذي قُدّم في باريس يوم الجمعة في السادس والعشرين من شهر تموز/ يوليو 2024 كان يحمل أوجهًا متعددة في الرسائل والمعاني التي تضمّنها، بعد مائة عام على آخر استضافة للأولمبياد في باريس حيث استقرت الشعلة الأولمبية في مدينة موليير في عام 1924، لتكون ثالث استضافة تاريخية لهذه الألعاب في باريس. ولعل مفهوم حفل الافتتاح للبطولات الكبرى في التاريخ المعاصر تجاوز حدود العمل الرياضي التنافسي الأخلاقي بين اللاعبين ليصل إلى مرحلة فنية متقدّمة تشكّل عرضًا لتراث وثقافة وحضارة البلد المضيف، ممزوجًا بقيم تلك البلاد وأسلوب عيشها بحيث تكون فيه الروح الرياضية الأولمبية مثل شعلة تنتقل بين البلدان، روح وثابة تدعو إلى أن تكون الأخلاق الحضارية والرياضية مثالًا يحتذى به في العلاقات الدولية بين الدول وبين الأفراد بدلًا من الكراهية والتنافسية الحادة والحروب.
في باريس 2024، مدينة حقوق الإنسان والثورة الفرنسية وشعار العدالة والإخاء والمساواة، كان حفل الافتتاح هذا العام بمثابة عرض مفتوح اتخذ من المدينة مكانًا غير مألوف له، في سابقة كبرى، جريئة وحذرة، حيث جرت الأعراف على أن تكون الافتتاحات الرياضية لكؤوس العالم أو البطولات الأولمبية في ذات الملاعب الرياضية المغلقة التي تجري فيها المنافسات، ليشاهدها الجمهور الذي حجز تذاكر خاصة لهذه العروض، وهذا يضمن بشكل من الأشكال أعلى درجات الأمن وحصر الاحتفال في مكان واحد ليشاهده سكان العالم لاحقًا عبر وسائل البث التلفزيوني، أما في باريس فقد قرّر القائمون على الحفل أن تتحوّل المدينة بمبانيها ومتاحفها ونهرها الكبير وشوارعها وجسورها وقواربها إلى مسرح حيّ مباشر يستقبل مئات آلاف المشاهدين، ليكون الحفل إعلانًا عن استضافة حقيقية للروح الأولمبية، ليس فقط بين المشاركين من الرياضيين، وإنما بين جميع سكان المدينة وفي جميع أنحاء البلاد ببيوتها وناسها وقطاراتها ومطاعمها وملاعبها، حيث لا مكان في باريس سيكون في منأى عن تلك الشعلة الأولمبية الوقادة التي جابت كل زاوية في تاريخ الفكر الفرنسي قبل أن تدخل الملاعب والرياضة.
لقد أدمج الفرنسيون ثقافتهم وطروحاتهم الفكرية والأخلاقية في “حطب الشعلة الأولمبية”. وفي حفل الافتتاح المذهل الذي استمرت التدريبات عليه لمدة تزيد عن عامين، كان سرير نهر السين هو المسرح الأساسي لاستعراض الفرق المشاركة، وهو أمر لا سابقة له في تاريخ البطولات الدولية ولا حتى في أي استعراض حي ثقافي أو فني، حيث قرّر القائمون على حفل الافتتاح الاستفادة من علامات المدينة الأساسية لغاية إدماج أكبر قدر ممكن من سكان العاصمة في حفل الافتتاح ولتأكيد أن أي مكان في هذا العالم يصلح لأن يكون مسرحًا للأعمال الفنية والرياضية. سبق لجنة ألعاب باريس الأولمبية إلى هذا الاقتراح عدد من الفرق عبر التاريخ المعاصر مثل فرق موسيقى السايكوديليك التي اختارت مدينة بومبي الايطالية المندثرة كي تكون مكانًا لعرضهم، أو في اختيار جدار برلين المنهار كي يكون خلفية لحفلاتهم؛ حصل الأمر ذاته عبر تحويل المعامل أو الكنائس الكبرى التي أوقفت عن العمل لصالح تحويلها لمعارض أو مسارح أو صالات سينما، ولكن أن تتحوّل مدينة مكتظة بعشرة ملايين إنسان بما فيها من خطورات أمنية وتحدّيات مفاجئة من أي نوع أو شكل تهدّد سلامة الفنانين أو سلامة السكان، فذلك أمر لم يحدث مطلقًا، حيث انتقلت فعاليّات الحفل من مركزية سرير النهر، كما ذكرنا، إلى استعراض الوفود في قوارب تحمل أعلام الدول المشاركة إلى أسطح البنايات الباريسية الرمادية المميزة حيث تقافز حامل الشعلة في إشارة إلى رياضة خطرة منتشرة في باريس تسمى الباركور، وفيها يقفز المخاطرون بحياتهم فوق أسقف البيوت لاستعراض مهاراتهم البدنية الممزوجة بجمال مناظر غير مألوفة بالنسبة إلى السكان العاديين. ومن سطح إلى آخر في لوحة مذهلة، دخل حامل الشعلة إلى مبنى مسرح شاتليه التاريخي واندفع في كواليس المسرح بحباله وأخشابه وأوراقه حاملًا شعلة أولمبية لا تحرق وإنما تنير، ليخرجنا معه إلى خشبة المسرح حيث يُقام عرضٌ يمثّل الثورة الفرنسية ليجسّد المشهد أول كلمة من شعار الثورة الفرنسية وهو الحرية، حيث نشاهد فرقة مسرحية تعيد تشكيل أحد المشاهد من الثورة الفرنسية هو لوحة “الحرية التي تقود الشعب” ليوجين ديلاكروا، وهي لوحة أيقونية موجودة في متحف اللوفر تُعتبر إرثًا ثقافيًا إنسانيًا كبيرًا، وقد ألهمت العشرات، بل ربما المئات من الفنانين حول العالم بمعنى الحرية والنضال من أجلها، كان أهمهم بارتولدي الذي استوحى تمثال “الحرية التي تنير العالم” في نيويورك.
ومن خلفية مشهد اللوحة التي تم إعادة تشكيل شخوصها على المسرح، هنالك نافذة صغيرة تندفع الكاميرا إليها لننتقل إلى الضفة الأخرى من نهر السين المقابلة لمسرح شاتليه حيث يقع القصر والسجن السابق “الكونسييرجيري”، الذي قضت فيه ماري أنطوانيت آخر أيامها قبل أن تساق إلى المقصلة، في إشارة إلى دموية الثورة التي سبقت الحرية، حيث وعلى نوافذ القصر نصبت جسور صغيرة جلس فوقها أعضاء فرقة كوجيرا لـ “Heavy metal” الشهيرة ليعيدوا توزيع أغنية (Ah ! ça ira, ça ira) الثورية الشهيرة التي ردّدت لأول مرة في العام التالي للثورة الفرنسية، والتي تدعو كلماتها إلى القضاء على الطبقة المستبدّة المعادية لحقوق الإنسان في حينها، حيث تعمّد القائمون على الحفل اختيار مقطع معين من كلمات النشيد الثائر يتعلق بالقضاء على المنتفخين بالثروة. ولعلنا هنا أمام إشارات ثورية تمثّل “اليسار المتطرّف” التي أعلنت عن نفسها بقوة مع الثورة الفرنسية، ولا يزال صدى شعاراتها يتردّد حتى يومنا هذا في مطالبات اليسار المتطرف (فرنسا الأبية) في فرض الضرائب على كبار الأثرياء وتحويل أجزاء كبيرة من ثرواتهم للصالح العام. وهو فعل معاصر مواز ومعادل حضاري لفعل تعليق المنتفخين بالثروة على الأعمدة. ومن هذه الزاوية تنطلق موسيقى “الميتال الثقيلة” ليتردّد صدى الأغنية الشعبية القاسية في عموم المدينة معيدة لمضامين الثورة معناها الأصيل مجددًا مترافقة مع مشاهد مسرحية غاية في الروعة تتمثل في إعادة تجسيد الثورة ومآسيها وحتى تعليق الفاسدين من الأثرياء ومن رجال السلطة والمنتفعين، وتعليق الأجساد على الأعمدة كما تتضمن كلمات الأغنية، في مشهد مسرحي أكروباتي أقل ما يُقال عنه أنه غاية في الإذهال والروعة والاكتمال، حيث سيراقب مشاهدو حفل الافتتاح استعادة مسرحية كاملة لمشاهد من الثورة الفرنسية، وكأننا فعلًا في مسرح مفتوح، يمثّل الحقيقة بما فيها ألوان العنف. هذا العنف الثوري الذي حمى أجيالًا من الفرنسيين من العبودية الفردية ومن الدكتاتورية وانعدام المساواة وفتح أبوابًا لروح الإخاء والمساواة والعدالة التي تتقاطع بشكل كبير مع شعارات الروح الأولمبية في التنافس الحر الشريف دون إقامة أي اعتبار للّون أو العرق أو الجنس، في نفي كامل لمبادئ الفاشية والتطرّف والعنف والتمييز. وبينما تنطلق الموسيقى الحديدية من شرفات القصر، امتلأت النوافذ بدمى نساء تحمل رؤوسًا مقطوعة في أداء مسرحي ملفت، يدلّل على تاريخية المكان والدور الذي لعبه في الثورة الفرنسية، ليقفل المشهد بنوافير من القماش الأحمر في كناية عن الأيام الدامية، لتنتهي الأغنية التي هزت ضفة جزيرة “إيل دولا سيتيه”، في نهر السين على أنغام أغنية الحب الشهيرة في أوبرا كارمن لجورج بيزيه التي يحفظ لحنها غالبية عشاق الفن في العالم؛ الأغنية التي تقول بأن “الحب طائر متمرّد لا يستطيع أحد أن يروّضه”. هذه الأغنية الخالدة التي قدّمت في أوبرا كارمن باللغة الفرنسية في عام 1875، والتي قدّمتها مغنية فرنسية شهيرة وهي واقفة فوق قارب تجرّه العربات على ضفة النهر، حيث كان انتقال الموسيقى من الميتال إلى الأوبرا معبّرًا بشدّة عن التنوّع الفني الذي تعيشه الثقافة الفرنسية الأوروبية بين الماضي والحاضر، وكأنما كانت موسيقى الميتال هي تلك الموسيقى التي عاشها الشعب في الفترة الدموية من الثورة الفرنسية، بكلمات أغانيها الحاسمة وألحانها الدموية، كي يفضي كل ذلك إلى روائع الفن الخالد في أوبرا كارمن وأغنية الحب الخالدة التي يتم سماعها كل يوم في أوروبا.
تقوم فكرة المختبر المسرحي على نظرية دمج عدّة فنون في قالب واحد لتنتج معنى جديدًا؛ وهذا بالضبط ما حصل في حفل الافتتاح الذي أدمج فيه المسرح مع الفن التشكيلي، والعمارة مع الموسيقى والرقص، والأزياء مع السينما، والغناء مع الموسيقى العسكرية. فحينما نشاهد مشهدًا لموسيقى الميتال تعزف فوق شرفات المبنى الذي حوكم فيه النبلاء الفرنسيون، مترافقًا مع عرض للدمى التي تمثّل الحدث، فإننا نفتح للماضي أبوابًا تكرّس الثورة الفرنسية كإرث ثقافي غير عنفي رغم مظهرها العنيف والذي تم إعادة تشكيله بأدوات لُعبية. ومثل ذلك، مشهد تعليق الفاسدين على الأعمدة الذي نُفّذ من قبل لاعبي الأكروبات، فبدا أشبه بلعبة كبرى تتأرجح بين الجدّ والهزل.
ومن لوحة الحرية إلى لوحة الحب إلى لوحة المساواة، تنطلق فعاليات الحفل، ليدخل حامل الشعلة الملثّم الذي يقود الحفل مجدّدًا إلى المكتبة الوطنية الشهيرة باحثًا عن شباب مختلف يقرأ باهتمام كتبًا عن الحب، فبعد الإشارة لمعنى الموسيقى في الثورة والحب، وبعد التحية التي قدّمها حفل الافتتاح لمعنى الفن في حياة الفرنسيين، حيث ركّز القائمون على حفل الافتتاح على العناصر الأساسية لثقافة البلد المُضيف للحدث، فإن كان الحدث في أستراليا مثلًا، سيكون التركيز على رموزها مثل الكانغارو وطائر الكيوي وثقافة الإنسان المعاصر في العالم الجديد، وإن كان في لندن فسيكون التركيز على رموز البلد التاريخية مثل شكسبير والمسرح واكتشاف العالم، وإن كان الحفل في الصين فسيركّز القائمون على فكرة انصهار الفرد في المجموعة أو رقصة النو وعلى الأزياء الصينية المبهرة بألوانها والحشود التي تعكس رقص وثقافة الصين العظيمة. ولكن ما هي رموز فرنسا إن لم تكن تلك القيم، قيم الحرية والعدالة والمساواة والإخاء؟! إن لم تكن احترام الآخر وتقديس الفن الحقيقي عبر التاريخ؟!.
سينتقل حامل الشعلة إذًا في أروقة المكتبة متنقلًا بين شباب معاصر متعدّد الألوان والأجناس والأعراق، يمثّل فرنسا المعاصرة، فرنسا التي تنتمي إلى المستقبل، فرنسا الجيل الذي يقرأ كتبًا ستوضع أغلفتها في واجهة الكاميرا، مثل كتاب “الرومانسية بدون كلام” للشاعر فيرلان، إلى كتب فلوبير وماريفو وألفريد ديه موسيه وموباسان، وصولًا إلى أعمال آني أرنو “الشغف البسيط” الذي نالت عليه جائزة نوبل للآداب قبل سنوات، ولتنتهي قائمة روائع الأدب الفرنسي مع كتاب الفرنسية من أصل مغربي ليلى سليماني وكتابها الإشكالي “الجنس والكذب” الذي أحدث ضجة كبرى في المغرب؛ يا له من تكريم للكتّاب العرب في هذا الحفل العالمي! متبوعًا بكتاب “انتصار الحب” لماريفو، حيث ينتصر الحب بكل حرية في بلاد الحرية. فمهما كان الحب حرًا ومتشعبًا هو حتمًا أفضل من الحروب الدينية والطائفية واستغلال البشر تحت ذريعة العفة. كل هذه العناوين في المكتبة تأتي في سرد تاريخي متصل أراد القائمون عليه أن يقولوا بأن هنالك سياقًا غير منفصل ممتد منذ قرون للقيم الفرنسية، لم تغيّرها حرب أو تحرّفها مسارات سياسية، الحب سيبقى رغم كل شيء قيمة مقدّسة في فرنسا، وستخلّده الكتب وستحميه الجيوش، التي ستنطلق فرقها الموسيقية لمشاركة المغنية من أصول مالية آية ناكمورا، التي مارس اليمين المتطرّف اضطهادًا كبيرًا لها في حملته الانتخابية، لتقدّم بعد فقرة المكتبة وتاريخ الأدب المُمجِد للحب، فقرة ساحرة برفقة فرقة الجيش فوق جسر الفنون.
كل هذه التعدّدية ودمج الفنون واحترام الأقليات وتقديس قيم الثورة الفرنسية كانت حاضرة في حفل الافتتاح، في تجسيد حيّ للشخصية الفرنسية التي تكرّم الإنسان بصفته منحة ومركزًا للكون، ومن أجله يجب أن يتغير العالم لا على حساب كرامته وإنسانيته.
لم يخجل الفرنسيون من تاريخهم، بل هم متصالحون معه، الثورة الدامية أنتجت مجتمعًا صحيحًا، ومهمة رجال الدولة هي عدم الزجّ بالبلاد نحو فساد جديد ينتج ثورة جديدة، لقد باتت الثورة الفرنسية جزءًا من إرث البلاد، مثلها مثل المسرح والشعر والموسيقى، بل إن قيم تلك الثورة هي القيم التي بُنيت عليها حضارة اليوم، ومنجزاتها ومنها الألعاب الأولمبية.
إن عملية بناء الحكاية عبر تتابع سرد المشاهد التي يقودها راو واحد هو حامل الشعلة الأولمبية، أعطى لصنّاع الحفل صفة احترافية في بناء عمل مسرحي ضخم، يحمل في طيّاته الفكر الذي بنيت عليه الشخصية الفرنسية، والتي قد لا تعجب الكثيرين ولكنها موجودة، إنها فرنسا العلمانية التي تختلف مع الأديان في تكريس المقدّسات، وتحاول على الدوام أن تنزع القدسية عن كل شيء إلا عن الإنسان. فرنسا الممتدة من فكر التنوير وشرعة حقوق الإنسان إلى أشعار فيرلان واعترافات جان جاك روسو حتى الثورة الجنسية المعاصرة التي قد لا نتفق في مجمل تفاصيلها معهم، لكنها حاضرة ومتّسقة في حفل الافتتاح الذي كانت القيم الفرنسية بطلة فيه، امتزج فيها المسرح بالعمارة والأدب بالرقص والموسيقى بالأزياء، لتنتج عملًا تبشيريًا مثيرًا، عملًا يبشّر بمستقبل شائك لا يعرف صانعوه جدوى ثماره، سوى أنها مثقلة بالحرية المطلقة. الحرية التي نشأت عليها فرنسا ذاتها التي لم تك تعلم نتائج فعلة إعدام ماري أنطوانيت في ذات المبنى الذي أقيمت فيه حفلة موسيقى الميتال، فرنسا التي تبشّر بالحرية وتدعو العالم إليها، حرة طليقة من كل قيد.
إنها إذًا ثورة مستمرة، عبر قيمها ومعانيها، وأخلاقها، رغم كل ما يشوبها من أخطاء، ولكنها تبقى صالحة لمن يرغب إن أحب النضال من أجلها. وهكذا تثبت باريس بأنها ليست مكانًا للسكن والسياحة فقط، بل إنها تصلح كمكان متعدّد الأوجه، فضاء للفنون والاستعراضات والمسرح والأوبرا، فضاء حر متعدّد الاستعمال، يصلح أن يكون مختبرًا مسرحيًا.
إن حفل الافتتاح المذهل الذي يعدّ بلا ريبة من أفضل الافتتاحات الأولمبية عبر التاريخ المعاصر، قد لا يكون أكثر من عمل فني مذهل، ويحق لمن يختلف معه أن يعبّر عن رأيه ويرفض الرؤية الفنية للحفل، ولكن الحفل أثبت جدارة عاصمة النور بلقبها، وبأهمية قيمها الثورية المتصلة مع القيم الأولمبية، وبأن الفن والرياضة صنوان لا ينفصلان، وبأن الجمال لا يتنافى مع القوة، وبأن العفة ليست في الجسد بل في العقل، وبأن مفاهيم التعدّد والحرية لا تتعارض مع العدالة والمساواة. فرنسا التي برهنت للعالم انتصارها للضعفاء والمختلفين عن السائد باختيارها النجمة الكندية سيلين ديون لتعتلي الطابق الأول من برج إيفل لتنشد “نشيد الحب” الذي أدّته إيديث بياف قبل خمسين عامًا، ليكون نشيد الافتتاح، سيلين ديون التي راهن الكثير من المتابعين على عدم قدرتها على الغناء مجددًا، بسبب مرضها العضال الذي أقعدها وسبّب لها آلامًا مبرحة، قدمت أداءً عظيمًا لنشيد الحب، وأبكت الملايين بلحظات لا تصدّق، مؤكدة أن إرادة الانسان للحياة تهزم كل مرض وكل حرب وكل اختلاف، فإن لم تكن تلك هي الروح الأولمبية فعن أي روح أولمبية نتحدث؟
معاد نشره عن موقع ضفة العربي
فارس الذهبي، كاتب صحفي سوري
يمثل هذا المقال آراء الكاتب ولا يعكس بالضرورة الموقف التحريري لمنصة شيزوميديا